هل فكرت يومًا أن الطريق الذي تسير عليه سيارتك، قد يحمل في طياته ذاكرة مبنى قديم أو حكاية منزل تم هدمه؟، في شوارع العاصمة الرياض، لم يعد هذا خيالاً، بل أصبح حقيقة ملموسة، تروي قصة ثورة هادئة في عالم الهندسة، وفلسفة جديدة في بناء المستقبل.
إقرأ ايضاً:"جامعة أم القرى" تطلق ملتقى غير مسبوق.. مفاجآت حول "الصحة النفسية" في الأزمات والكوارث"الابن يسير على خطى الأسطورة".. استدعاء جونيور رونالدو لمنتخب البرتغال تحت 16 عام
ففي خطوة يمكن وصفها بـ "الخيمياء الحضرية"، نجحت الهيئة العامة للطرق، بالتعاون مع أمانة منطقة الرياض، في فك شفرة تحويل الركام والنفايات الإنشائية، التي كانت تمثل عبئًا بيئيًا، إلى ذهب أسود يمهد طرقات المستقبل، في تطبيق مذهل لمفهوم الاقتصاد الدائري.
لم تعد الخلطات الإسفلتية مجرد وصفة تقليدية من الحصى والمواد الخام، بل أصبحت اليوم تحمل في جيناتها بقايا الخرسانة القديمة وركام المباني، التي تم تكسيرها ومعالجتها في مختبرات مركز أبحاث الطرق، لتولد من جديد كمادة صلبة ومتينة ترصف بها الشوارع.
إنها قصة تحول ملهمة، تبدأ فصولها في المردم البيئي التابع لأمانة الرياض، الذي كان يُنظر إليه كمحطة أخيرة للنفايات، ليصبح اليوم منجمًا لمواد البناء، في شراكة حكومية متكاملة، تحول التحدي إلى فرصة، والمشكلة إلى حل مبتكر.
هذه المبادرة لا تقدم حلاً لمشكلة بيئية فحسب، بل تفتح آفاقًا اقتصادية واعدة، فهي تقلل من الحاجة إلى استنزاف الموارد الطبيعية من المحاجر، وتخفض بشكل ملحوظ من تكاليف إنشاء وصيانة الطرق، لتثبت أن الحفاظ على البيئة والاستدامة المالية يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب.
وتأتي هذه الخطوة الجريئة كجزء من ملحمة وطنية أكبر، تهدف إلى تحقيق هدف استراتيجي طموح، يتمثل في إعادة تدوير ستين بالمئة من مخلفات البناء والهدم بحلول عام 2035، لترسيخ أسس اقتصاد دائري لا يعرف الهدر.
ولم تكن الرياض هي أول من يشهد على نجاح هذه التجربة، فقد سبق وأن رأت شوارع جدة والأحساء النور بنفس هذه التقنية، مما يؤكد أننا أمام حل علمي موثوق ومجرب، وليس مجرد فكرة عابرة، وأن الهيئة عازمة على تعميم هذه الفلسفة في كافة أنحاء المملكة.
إن هذا التوجه لا يخدم فقط أهداف الاستدامة، بل يصب مباشرة في قلب استراتيجية قطاع الطرق الطموحة، التي تهدف إلى تحقيق إنجاز تاريخي بالوصول إلى المرتبة السادسة عالميًا في مؤشر جودة الطرق، وهو هدف لا يمكن بلوغه بالطرق التقليدية وحدها.
فالابتكار في المواد والتقنيات، هو الذي سيمنح طرق المملكة الميزة التنافسية، وسيرفع من جودتها ومتانتها، وسيساهم في تعزيز عوامل السلامة المرورية، وتحقيق الهدف الأسمى المتمثل في خفض وفيات الحوادث، في معركة تخوضها الدولة من أجل حماية أرواح أبنائها.
لقد أثبتت هذه المبادرة أن النظرة الإبداعية قادرة على حل أعقد المشكلات، وأن الابتكار ليس حكرًا على المختبرات الرقمية، بل يمكن أن يولد أيضًا من قلب الركام والنفايات، ليحولها إلى شرايين حياة تخدم الملايين.
إن شوارع الرياض اليوم، لم تعد مجرد مسارات صامتة للتنقل، بل أصبحت تحمل في طياتها قصة نج-اح ملهمة، تروي حكاية وطن طموح، لا يخشى تبني الأفكار الجديدة، ويبني طرق غده المشرق من بقايا حاضره وماضيه.
في المحصلة النهائية، وبينما تسير أنت على هذا الإسفلت الجديد، تذكر أنك لا تسير فقط على طريق، بل على شهادة حية بأن هذا الوطن يحول كل شيء، حتى الركام، إلى فرصة للبناء والتقدم.